إنها معجزة القرآن البلاغية التي أعجزت بلغاء العرب وفصحاءهم في عصر البلاغة والبيان.. وحتى يومنا هذا لم يتمكن أحد من الإتيان بمثل هذا القرآن.. دعونا نتأمل بعض الأمثلة التي تظهر الدقة الفائقة….
الكتاب الوحيد الذي يتميز بأن كل كلمة من كلماته قد وضعت في مكان مناسب لا يمكن تغييره أو تبديله، فلا يمكن أن تحلّ كلمة مكان كلمة أو يحل حرف مكان حرف من حروف القرآن، وهذه القاعدة تنطبق على القرآن كله.. وسوف نرى ذلك بالأمثلة.
حكيم خبير
إذا أردتَ أن تؤلف كتاباً ناجحاً فأنت بحاجة للعلم والحكمة لتتمكن من وضع كل كلمة في المكان المناسب، ولكن عندما تريد أن تفصل موضوعاً محدداً فأنت بحاجة لخبرة عالية في هذا الموضوع لتتمكن من سرد التفاصيل بدقة.. الله تعالى قال عن كتابه الكريم: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) هذه الكلمات هي جزء من أول آية من سورة هود، ولكن كيف ختمت الآية؟
المنطق يقتضي أن يذكر الحكمة لتناسب الإحكام، والخبرة لتناسب التفصيل.. وهذا ما نجده بالفعل: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1].. ولو كان القرآن من عند بشر لقال مثلاً (غفور رحيم.. أو عزيز حكيم …) ولكنه استخدم الكلمتين المناسبتين.. فهل هذا من تأليف بشر؟
وفي الرقاب
قال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) [التوبة: 60]. الصدقة تعطى للمسكين مباشرة، وللعاملين عليها مباشرة.. وللغارمين أي الذين عليهم ديون تعطى مباشرة.. بينما لا تعطى للعبد بل لسيّده ليعتقَه، ولا تُعطى لسبيل الله بل في سبيل الله لأننا ننفقها في وجوه متعددة، مثل العلم وبناء المساجد والمشافي الخدمات التي ينتفع بها الناس…
ولذلك قال تعالى (وَفِي الرِّقَابِ) ولم يقل (للرقاب) أي العبيد… لأن الصدقة تعطى كثمن لشراء العبد وإعتاقه في سبيل الله.. وهذا يؤكد أن الإسلام جاء ليحرر الناس وليس ليستعبدهم كما يدعي بعض الملحدين.
خائن وخوّان
أمر الله نبيه في حال خاف من قوم خيانة، (الخيانة يمكن أن تقع ويمكن لا) قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) الأنفال: 58]. فختمت الآية بالخائنين كاسم فاعل.
وعندما تحدث الله عن الذين اعتادوا الخيانة: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء: 107]. وصفه الله بصيغة مبالغة (خَوَّانًا) تناسب حاله. وسبحان الله جاءت كلمة (الْخَائِنِينَ) مناسبة لكلمة (خِيَانَةً) قبلها.. وجاءت كلمة (خَوَّانًا) مناسبة للكلمة التي قبلها (يَخْتَانُونَ).. فكل كلمة لها ما يناسبها، ولا يمكن أن تحلّ كلمة مكان أخرى.
ارزقوهم فيها
أمر الله أن نحافظ على أموال اليتامى ونستثمرها ونعطيهم من ربحها لكي لا تنفذ، وعندما يكبر نعطيه المال مع الربح. ولذلك لم يقل تعالى (وارزقوهم منها) بل قال: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْفِيهَا وَاكْسُوهُمْ) [النساء: 5]. إذاً العطاء هنا متعدد ومستمر حتى يكبر اليتيم، أي أن العطاء يكون من أرباح المال.
وعندما أمر بإعطاء بعض المال من التركة قال: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء: 8]. فالعطاء هنا يكون من المال نفسه لأنه عطاء لمرة واحدة.
فالآية الأولى يناسبها (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا) لأنها تناسب الحديث عن السفهاء.. والآية الثانية يناسبها (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) لأنها تناسب الحديث عن اليتامى والمساكين.. فسبحان الله!
وهكذا الكثير من الأمثلة التي تؤكد وجود معجزة بلاغية في كتاب الله عز وجل… وإن شاء الله سوف نستكمل عرض الأمثلة في المقالة القادمة.. لا تنسوا المساهمة في نشر هذه المقالات بين أحبكم في الله.
ــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل