البرزخ ينتظر كلّ واحد منّا.. ما الذي يحدث عبر هذا البرزخ؟ وماذا يوجد وراءه؟ وما هي غَمَرات الموت التي تسبق مرحلة البرزخ؟ وما هي الأحداث، والحوارات، والتَّفاعلات التي تحدث في منطقة غَمَرات الموت، والبرزخ، وما وراء البرزخ؟……
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحقيقة أحببت أن أتأمَّل معكم لحظة الموت.. ولحظة عبور البرزخ إلى حياة ما بعد الموت، أو إلى حياةٍ يمكن أن أسميها حياة ما وراء البرزخ.
هذا البرزخ ينتظر كلّ واحد منّا.. ما الذي يحدث عبر هذا البرزخ؟ وماذا يوجد وراءه؟ وما هي غَمَرات الموت التي تسبق مرحلة البرزخ؟ وما هي الأحداث، والحوارات، والتَّفاعلات التي تحدث في منطقة غَمَرات الموت، والبرزخ، وما وراء البرزخ؟
الحقيقة أحببت أن أعرض لكم تأمُّلي لبعض آيات القرآن، التي تتحدث عن لحظة الوفاة التي تحضر الإنسان.. وما هي الأحداث التي تنتظر كل واحد منا.
في البداية لا يوجد شيء اسمه حياة البرزخ.. إنَّما حياة ما وراء البرزخ، لماذا؟ الله تبارك وتعالى يقول في سورة المؤمنون: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:100]، أي أنَّ البرزخ سيصبح وراءك بعد الموت.. (وَمِنْ وَرَائِهِمْ) من خلفهم يعني، (بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، أيّ أنَّ الإنسان بعد أن يموت يعبر هذا البرزخ ويصبح في حياة ما وراء البرزخ (يصبح البرزخ وراءه)، ولا توجد حياة داخل البرزخ.. لأنَّ الله يقول: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ)، إذاً البرزخ يكون وراءك بعد الموت.
الحقيقة هذا الموضوع حيَّر الكثير من الباحثين.. ما هو البرزخ؟
خير ما يفسّر القرآن هو القرآن.. لو تأمَّلنا في القرآن الكريم كلمة “برزخ” نجدها تكرّرت ثلاث مرّات فقط في القرآن كلّه.
المرّة الأولى في قضيَّة موت الكافر: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:90-100]، هذه الآية الأولى تتحدَّث عن برزخ الموت.
الآية الثَّانية: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا)[الفرقان:53]، إذاً تتحدَّث عن البرزخ أيّ المنطقة الفاصلة بين الماء العذب والماء المالح.
الآية الثَّالثة أيضاً تتحدث عن البحار: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ*بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ*فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)[الرّحمن:19-20-21]، إذاً هذا حديث عن برزخ بين بحرين.. أحدهما عذب والآخر مالح، وأحياناً يوجد البرزخ بين البحار المالحة.. فنجد أنَّ الحياة في الماء المالح تختلف عن الحياة في الماء العذب بسبب اختلاف درجة الحرارة والملوحة والكثافة.
إذاً البرزخ ما هو؟ هو حدٌّ فاصلٌ بين بيئتين مختلفتين، وبين حياتين مختلفتين.. الأسماك والكائنات التي تعيش في الماء العذب تختلف عن الكائنات التي تعيش في الماء المالح، لذلك دائماً البرزخ يفصل بين بيئتين متناقضتين أو مختلفتين وفيهما حياة.
فعندما يصبّ النَّهر العذب في البحر المالح يتشكّل بينهما برزخ.. وهو خط فاصل أو جبهة فاصلة وهميّة لا نراها نحن.. ولكن هذه الجبهة، أو الخط الفاصل، أو الجدار الفاصل كما نسميه.. نجد أنّ الماء العذب هنا والماء المالح هنا.. أسماك تعيش في الماء العذب لا تستطيع أن تعيش في الماء المالح.. والأسماك التي تعيش في الماء المالح لا تستطيع أن تعيش في الماء العذب.
إذاً نستطيع من خلال هذه الآية الكريمة أن نقول بأنَّ البرزخ هو فاصل، أو حدٌّ فاصل، أو جدار فاصل.. يفصل بين حياتين مختلفتين.
في حالة برزخ الموت: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:100]، يمكن أن نقول إنَّ هذا البرزخ هو حدٌّ فاصل يفصل بين حياة في الدنيا.. وحياة ما بعد الموت، إذاً كما أنّه لدينا حياة في الدنيا.. يجب أن يكون لدينا حياة بعد الموت والبرزخ يفصل بينهما، ولكن هذه الحياة تختلف تماماً عن تلك الحياة.. كيف يكون ذلك؟
الحقيقة إذا تأمَّلنا آيات القرآن نجد بأنَّ الإنسان سوف يعيش حياتاً بعد الموت.. لا يوجد شيء اسمه حياة برزخ من دون أيّ حدث، أو من دون أي شيء، أو مجرد أن يغيب الإنسان في غيبوبة ثمَّ يُبعث يوم القيامة.. لا هناك حياة، وربما تكون حافلةً بالأحداث أكثر من الحياة الدنيا التي نعيشها الآن، ما هو الدَّليل على ذلك؟ الله تبارك وتعالى يقول: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)[البقرة:154]، إذاً هذه آية صريحة تؤكد أنَّ الذي يموت في سبيل الله هو حيٌّ يُرزق عند ربِّه.. يعيش حياةً حقيقيّة وليست حياة وهميَّة.
هذا ما أكَّده نصٌّ قرآنيّ آخر.. قال الله تبارك وتعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران:169].. وكلمة “يُرْزَقُونَ” هنا لو تتبَّعنا الرِّزق في القرآن الكريم نجده تكرر 123 مرّة بمشتقاته.. وعادةً ما يأتي الرّزق مع الأشياء الماديّة الملموسة.. يعني مثلاً: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)[البقرة:57]، رزق ماديّ ملموس.
(أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ)[النساء:39]، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا)[غافر:13]، أيّ المطر.. إذاً الرِّزق في القرآن الكريم يأتي مع الأشياء الماديّة الملموسة.. الثّمار، الأمطار، إلى آخره..فهنا عندما يقول الله تبارك وتعالى: (بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران:169]، ما معنى (يُرْزَقُونَ)؟ أيّ أنّ هناك رزق ماديّ ملموس.. ولكن نحن لا نشعر به ولا نعرفه.
ماذا أيضاً؟ ما هي خصائص هذه الحياة؟
(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[آل عمران:169-170]، إذاً هناك حياة.. وهناك رزق.. وهناك فرح.. وهناك استبشار.. سبحان الله!
يعني نعيم ماديّ، ونعيم نفسيّ.. من خلال الفرح والاستبشار، والنَّعيم الماديّ من خلال الرِّزق.
إذاً هذا حال من يموت في سبيل الله.. ماذا عن حال المؤمن؟ وحال الكافر؟ وماذا عن حال المنافق مثلاً؟
(هنا نتعامل مع الزَّمن وليس مع المكان، منطقة زمنية) هناك منطقة اسمها البرزخ.. تسبقها منطقة يمكن أن نسميها غَمَرات الموت، هذه المنطقة هناك تبدأ لحظة الموت ولكن قبل أن يموت الإنسان..هناك حوارات تجري، هناك أحداث كثيرة جداً.. ثمَّ بعد ذلك يعبر الإنسان بنفسه وروحه منطقة البرزخ، تاركاً الجسد وراءه في الحياة الدنيا.
إذاً هذه المنطقة بالنِّسبة للإنسان الذي كفر بالله، وألحد، واستكبر، وفعل الذنوب والمعاصي وتحدَّى الخالق عزَّ وجلّ.. هل يُرسِل له الله ملائكة رحمة؟ أم ملائكة عذاب؟ بالمنطق نتحدث.. هل هذه الملائكة التي ستتوفّى هذا الكافر.. هل ستكون الوفاة مريحة لا يشعر بها؟ أم هناك ألم وعذاب وضرب وذلّ وهوان؟
طبعاً لكي نعرف دائماً نلجأ إلى القرآن الكريم.. القرآن الكريم فيه تعبير عجيب جداً (وَلَوْ تَرَى)، هذا التَّعبير في الحقيقة إذا فكرت به يصوّر لك الحدث لو أنَّ الله أعطاك القدرة على رؤية الأحداث لكنت رأيت هذا المشهد.
الله تبارك وتعالى يقول: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ)[الأنعام:93]، إذاً هذا الظَّالم الآن في غَمَرات الموت، في منطقة عاصفة تَعصِف به الغَمْرة (الستر، الغطاء).. يعني نقول غمرَته المياه أيّ غطّته المياه.. يعني هناك ما يشبه الأغطية التي تحيط بهذا الميِّت و تغلّفه لا نراها نحن بأعيننا، لا نستطيع أن نخترق هذه الحُجب لرؤية ما يحدث، ولكنّ القرآن يحدّثنا.
يقول تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ)[الأنعام:93]، الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم ولكلّ مؤمن.. يعني أيُّها النَّبي لو أنَّ الله أعطاك القدرة على أن ترى بعينك ماذا يحدث لهذا الكافر لحظة الموت فسوف ترى المشهد الآتي، ماهو المشهد؟ (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ)[الأنعام:93]، إذاً الملائكة تبسط أيديها.. والبسط هنا ليس مجرد أن تمدّ يدها.. بل باسطةٌ أيديها بالعذاب.. الملائكة تبسط أيديها بالعذاب.. نحن نعلم في قصة قابيل وهابيل.. عندما هدَّد قابيل أخوه هابيل بالقتل، ماذا قال له؟
قال: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[المائدة:28]، إذاً القرآن يصوّر لنا بدقّة ما يحدث لهذا الظَّالم، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)[الأنعام:93]، هذا تهديد من قِبل الملائكة لهذا الظالم.
تقول لهم هؤلاء الظّلمة: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام:93]، إذاً أيّها الملحد الظَّالم إذا كان لديك القوَّة أخرج نفسك من هذا العذاب.. هذا هو المعنى.
والقرطبيّ له أيضاً تفسير جميل لهذه الآية.. يقول إنَّ روح ونفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربِّها لما يرى من النَّعيم.. من نعيم الله ومن الجنَّة والرِّضوان.
بينما نفس الكافر تأبى.. لذلك كما قلنا في آية أخرى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا)[المؤمنون:90-91]، يحاول أن يرجع إلى الدنيا لما يرى أمامه من العذاب.
وهنا أيضاً الملائكة تهدِّدهم وتقول: (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ)[الأنعام:93]، فنفس الكافر كما يقول الإمام القرطبيّ رحمه الله.. تأبى الخروج، لأنَّها ترى الأهوال، والعذاب.. عذاب الله سبحانه وتعالى أمامها، وترى شدّة الهوان والذلّ.. وبالتّالي يحاول هذا الظَّالم أن يرجع إلى الدنيا.. وتحاول نفسه أن تأبى الخروج، ولكن هذه الأنفس تزهق وتخرج وهي كارهة.. سبحان الله.
لذلك نجد أنّ المؤمن يحبُّ لقاء الله.. بينما الكافر يكره لقاء الله،
(مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت:5]، هذا الآية لمن موجهة؟ للمؤمنين..وليس للكفّار، ولا للملحدين.. لأنّ الملحد عندما يرى حقيقة العذاب أمامه ويرى هذا المصير الأسود الذي ينتظره.. فإنَّه يحاول أن يعود إلى الدنيا ويهرب من هذه اللحظة.
ولكنَّ الملائكة ماذا تقول له: (الْيَوْمَ)[الأنعام:93]، أيّ ليس يوم القيامة بل اليوم.. لحظة الموت.. يوم موتك أيّها الظَّالم، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأنعام:93]، أيّ عذاب الذلّ والهوان.. إهانة يعني عذاب مع مهانة وذلّ، (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام:93].
نلخص هذه الحلقة بكلمات قليلة.. ونقول إنَّ مرحلة البرزخ تنتظر كلّ واحد منّا ليَعبُر من خلالها بروحه ونفسه.. وليس بجسده.. الجسد يتركه في الحياة الدنيا.. ليس له أيّ قيمة.. يتحوَّل إلى تراب، أمَّا الرُّوح والنَّفس هي التي إمَّا أن تعود إلى الله عزَّ وجلّ.. وإمَّا أن تعيش حياة عذاب وشقاء وذلّ وهوان.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يَقيَنا شرَّ هذه اللحظة.. ويقينا عذاب ما بعد الموت.
وفي المقالة القادمة نستكمل هذه التأمُّلات الإيمانيَّة لمرحلة الموت وما بعد الموت.. والإثبات من القرآن الكريم على أنَّ الحياة التي تنتظرك أيُّها الإنسان بعد الموت تَحفَل.. بالأحداث أكثر بكثير من حياتك التي تعيشها.
والحمد لله ربِّ العالمين.
بقلم عبد الدائم الكحيل
يمكنكم مشاهدة هذه الحلقة