التفكير بالموت يعالج الاكتئاب، والقلق، والحزن، ومشاكل نفسيَّة كثيرة، ولكن بشرط أن يكون لديك إيمان بالآخرة……
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
نستكمل رحلتنا في عالَم الغيب.. ونعيش مع الجزء الثَّالث من هذه السِّلسة التي نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل فيها العلم النَّافع.. وأن ننتبه جميعاً إلى ما ينتظر كلّ واحد منَّا.
أفضل طريقة لعلاج همومك أيُّها الإنسان، وهذا ثبت علميَّاً طبعاً.. أن تجلس لحظات وتفكِّر.. بمصيرك بعد هذه الحياة الدُّنيا.. أنت الآن في الحياة الدُّنيا ومضة، أو لمحة، أو ساعة فقط.. متاع قليل جداً.. ولكن سوف تدخل بعد أن تنتهي حياتك في مرحلة مليئة بالأحداث، ومليئة بالمفاجآت.. لذلك كلَّما كان لديك تصوّر أعمق عن المصير الذي ينتظرك، أو عن الحياة التي تنتظرك بعد الموت.. كلَّما كنت مرتاح أكثر.. وكلَّما اطمئنَّ قلبك حتَّى في الدنيا.
لذلك الدراسة العلميَّة تقول: إنَّ التفكير بالموت يعالج الاكتئاب، والقلق، والحزن، ومشاكل نفسيَّة كثيرة، ولكن بشرط أن يكون لديك إيمان بالآخرة.
سبحان الله.. يعني علميَّاً ثَبُت من قِبَل أُناس غير مسلمين.. قاموا بهذه الدِّراسة، وثَبُت أنَّ الإيمان بالآخرة هو شرط أساسيّ لعلاج الاكتئاب.. وبشرط أن تفكِّر قليلاً بالموت، وما بعد الموت، هذا ما نحاول أن نفعله في هذا اللقاء المبارك.
لا حساب قبل العذاب.. أو لا عذاب قبل الحساب.. يعني هذه مقولة لا أعتقد أنَّها صحيحة، لماذا؟
الكافر يُعَذَّب في الدنيا.. ليس من الضروري أن يُمهِلَه الله إلى يوم البعث.. إلى يوم الحساب، الله تبارك وتعالى يقول: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[السجدة:21]، إذاً سيذوقون ألواناً من العذاب في الحياة الدنيا.. لعلَّهم يرجعون إلى الحق.. دون العذاب الأكبر يوم القيامة.. إذاً هذا عذاب قبل الحساب.
هناك آية أخرى تتحدث عن المنافقين.. يقول فيها تبارك وتعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)[التوبة:101]، إذاً هذا العذاب الذي يكون في مرحلة ما بعد الموت.. هو عذاب صورة مصغَّرة عن العذاب العظيم الذي ينتظرك يوم القيامة.
وهذه الآية نزلت في حقّ المنافقين.. يعني من يُعلِن أنَّه مؤمن أمام النَّاس، ولكنَّه ينافق لمصلحة شخصيَّة.. أو لمصالح دنيويَّة، هذا مصيره: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة:101]، كيف مرَّتين؟ (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)[التوبة:101]، يعني ثلاث أنواع أو ثلاث مرَّات من العذاب؟
كلّ المفسرين لهم تفسير جميل جداً.. أحببت أن أقرأ عليكم هذا التفسير لندرك أنَّ كلّ علمائنا من المفسرين.. الطبريّ، وابن كثير، والقرطبيّ، وغيرهم كثير كثير كثير جداً يتبَنون هذا المعنى للآية، وهو واضح طبعاً.. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة:101].
قال الإمام الطبريّ، يقول: سنعذِّب هؤلاء المنافقين مرَّتين،إحداهما في الدنيا والأخرى في القبر (بعد الموت).
وفي تفسير القرطبيّ قال الحسن وقتادة: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة:101]، أيّ عذاب الدنيا وعذاب القبر.
وقال الفرَّاء:القتل وعذاب القبر.. هؤلاء أئمَّة التابعين.
وقال مجاهد:الجوع وعذاب القبر، كما في ابن كثير.
أمَّا الحسن البصري أيضاً تبنَّى هذا التفسير فقال: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة:101]، عذابٌ في الدنيا وعذابٌ في القبر.
وعن قتادة رضي الله عنه في قوله: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة:101]، عذاب الدنيا، وعذاب القبر.
إذاً الإنسان العاقل يجب أن يوقن أنَّ هناك مراحل كثيرة ستمرُّ بها أيُّها الإنسان منذ لحظة الموت.. وحتَّى البعث، ليست منطقة فراغ، إنَّما مليئة بالأحداث.
كما قال الله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة:101]، المرَّة الأولى عذاب الدنيا.. إذاً هو عذاب قبل الحساب.. وعذاب في القبر أيضاً، أيّ بعد الموت، أيضاً هو عذاب قبل الحساب، (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)[التوبة:101]، إذاً مقولة “لا عذاب قبل الحساب” أتصوَّر أنَّها غير صحيحة، بناءً على هذه التَّفاسير.
الشَّيء الثَّاني.. أنَّ الإنسان الذي يتصوَّر أنَّ هناك عذاباً في القبر، وأنَّ هناك أهوال تنتظره لحظة الموت.. يكون أكثر خوفاً، وأكثر استقامةً من الإنسان الذي يعتقد أنَّه لا يوجد عذاب، ولا يوجد سَكَرات الموت، ولا يوجد ملائكة عذاب يمكن أن تأتي لتقبض روحه، ولا يوجد ملائكة تضرب الظَّالم لحظة الموت، ولا يوجد شيء.
هذا الإنسان يكون أكثر استهتاراً، وهذا ثَبُت علَّمياً.. علميَّاً هناك دراسة تقول إنَّ الإنسان، أو إنَّ الشَّباب.. الدراسة أجريَت على بيئة من الشَّباب.. الشَّباب الذين يؤمنون بنار جهنَّم.. بعذاب الآخرة.. أكثر استقامة، وأقل انحرافاً من الشَّباب الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يؤمنون بنار جهنَّم.
ووجدوا أنَّ البيئة الإلحاديَّة التي ينتشر فيها الإلحاد، وينتشر فيها عدم الإيمان بجهنم.. تكثُر فيها الجريمة، والبيئة التي فيها إيمان بعذاب الله.. تقلُّ فيها الجريمة.. هذه معطيات علميَّة.
إذاً إيماني أنا كإنسان مؤمن بأنَّ هناك حياة أخرى تنتظرني بعد الموت قبل يوم القيامة.. هذا الشيء يخفِّف عني مصاعب الدنيا.. هموم الدنيا، يخفِّفها لأنَّني أعلم أنَّ هذه الدنيا عبارة مرحلة قليلة جداً جداً جداً، لذلك لا تستحق هذا العناء والتَّفكير وهذا الهمّ الذي أحمله، وعندما أعلم أنَّ هذه الدنيا لا تساوي إلَّا ساعة، أو أقل من ساعات يوم القيامة.. فإنَّ هذا أيضاً يخفِّف عليَّ هموم ومشاكل هذا العصر.. وبخاصة أنَّنا في عصر الضُّغوط النَّفسيَّة، سبحان الله.
دائماً القرآن يتحدَّث عن شخص واحد يموت بالمفرد، والذين يتوَفَّونه مجموعة من الرُّسُل.. رُسُل الله سبحانه وتعالى، أو من الملائكة.. يعني شخص تجتمع عليه مجموعة من الملائكة.
قال تبارك وتعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)[الأنعام:61]، ما معنى (لَا يُفَرِّطُونَ)؟
جاء في تفسير القرطبيّ: (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)[الأنعام:61]، أيّ لا يضيِّعون ولا يقصِّرون، أيّ يطيعون أمر الله.
وقال أبو عبيدة: لا يتوانَون، وقرأ عبيد ابن عُمير:أيّ لا يجاوزون الحدّ فيما أُمروا به من الإكرام أو الإهانة.
إذاً أنت عندما تكون أعمالك سيئة.. سوف تقول يوم القيامة:(يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)[الزمر:56]، يعني تجاوزت، وظلمت نفسي.. هنا الملائكة لا تفرِّط، لا تَظلم، لا تتجاوز، تعطي كلَّ إنسان حقَّه، هذه الكلمة فيها إشارة إلى نوع من أنواع الحساب والعذاب تعطي الكافر حقَّه، والمؤمن حقَّه.
ثمَّ إنَّ الله تبارك وتعالى عندما يقول: (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)[النِّساء:97]، هذه الآية فيها عذاب، وفيها حساب.. سبحان الله.
الآية الثَّانية: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ)[النَّحل:32]، هذه الآية فيها أيضاً نوع من أنواع الحساب، يعني هذا المؤمن يتعرَّض لعمليَّة حساب سريعة جداً لأنَّ أعماله معروفة، عندما يُنكر الملحد أعماله ويقول: (مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ)[النَّحل:28]، لحظة الموت، هكذا يقول الملحد، تقول الملائكة: (بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)[النَّحل:28-29]، والعياذ بالله.
إذاً العذاب يمكن أن يكون قبل يوم الحساب، ولكن في الدنيا هناك حسابات.. الملائكة تكتب كلّ شيء، هذه كلُّها حسابات، مِثقال ذرَّة.. إذا عملت مِثقال ذرَّة من الخير، أو من الشرّ، تسجَّل عليك، وهذا نوع من أنواع الحساب، الله تعالى يقول: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47]، سبحانه وتعالى.
والآن دعونا نتساءل ما الذي يحدث بعد الموت؟ بعد أن يلقى كل إنسان مصيره؟
الكافر سوف يُعرَض على النَّار بشكل مستمرّ، قال سبحانه وتعالى في قصَّة فرعون بعد أن أغرقه الله تبارك وتعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:46]، سبحان الله.
إذاً ما هو شكل العَرْض على النَّار؟
لكي نتخيَّل هذا الأمر.. أنا أحبّ دائماً أن آتي بأمثلة من الواقع.. لنتخيل أنَّ إنسان حُكِمَ عليه بالإعدام، كلّ يوم تأخذه مرَّتين إلى حبل المشنقة، وتقول له الآن سأُعدِمُك.. ثمَّ لا تفعل شيء.. ترجعه، كلّ يوم صباحاً ومساءً.. تأخذه من أجل أن تُعْدِمَه، وتهدِّده، ويرى حبل المشنقة ثمَّ تُرجِعُه، ما الذي سيحدث له؟
هذا نوع من العذاب ربما يكون أقسى من الإعدام نفسه.. لأنَّك أنت بشكل متكرِّر من خلال عَرضِه على هذا المصير، فلذلك الله تبارك وتعالى قال: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا)[غافر:46]، النَّار لا تُعرَض عليهم.. إنَّما هم من يُعرَض على النَّار، لماذا؟
هذا فيه نوع من الإذلال أيضاً، لو قال النَّار تُعرَض عليهم.. لربُّما فيه شيء من الإكرام لهم، أنَّ النَّار تأتي إليهم لتُعرَض إليهم..بينما كما تعهد الله تعالى و كما قال لهم: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأنعام:93]، ما معنى “الْهُونِ”؟
الذلّ.. لذلك قال النَّار يُعرَضون عليها، يؤخَذون ليُشاهدوا مصيرهم من النَّار.. ويُعرَضوا على هذه النَّار، وتتوعَّدهم النَّار أيضاً.. لأنَّ النَّار تنطق كما نعلم، (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)[ق:30]، إذاً النَّار تتكلَّم، وبالتَّالي هذه النَّار تهدِّدهم.. مرَّتين كلّ يوم، في الصَّباح وفي المساء.. غدُّواً وعشيَّاً، (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا)[غافر:46]، يؤخَذون.. يعني هذا منتهى أنواع الذلّ.
أنت إذا أردت أن تُذلّ إنسان تأخذه لتَعرِضَه مثلاً أمام القاضي.. لا تأتي بالقاضي لعنده، لتَعرِض عليه القاضي، لا هو يُعرَض.. يُعرَض على القاضي لتتمّ محاكمته بإذلال.
يعني هذا نوع من الإذلال، وبالتَّالي عندما يأتون إلى هذه النَّار ويُعرَضون عليها، ويشاهدون مصيرهم المظلم داخل هذه النَّار.. يحدث لديهم ألم، وعذاب، وخوف، وكلّ أنواع العذاب التي تتصوّرونها تحدث باستمرار، مع العلم أنَّ الزَّمن متوقف لديهم، أو شبه متوقف، أو هناك نوع آخر من الزمن.
الذي يعيش في حياة ما وراء البرزخ لا يخضع للقوانين الفيزيائيَّة، ولقوانين الزَّمان والمكان التي نعرفها نحن في الدنيا.. لهم قوانين خاصَّة يتمّ معاملة هذا الكافر.. العقوبة ليست خلال زمن، لا تتعلَّق بالزمن.. إنَّما تتعلَّق بحجم هذه العقوبة، يعني مثلاً ممكن إنسان مات منذ مليون سنة.. وإنسان مات قبل ربع ساعة كلاهما يتلقَّى نفس كميَّة العذاب.. لأنَّ القياس هنا بالكميَّة أو بالحجم وليس بعامل الزَّمن.
ما وراء البرزخ لا يوجد زمن، لذلك ماذا يقولون؟
(يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)[يس:52]، هذا أوَّل شيء لماذا؟ لأنَّهم يشاهدون الأهوال، ويشاهدون هذا العذاب، وتتوعَّدهم الملائكة كلّ يوم، وجهنَّم تتوعَّدهم كلّ يوم، حتَّى إذا بُعِثوا يوم القيامة.. مجرَّد أنَّهم بُعِثوا (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)[يس:52]، إذاً الموضوع مهمّ جداً، وهذه الآية استخدمها البعض لإنكار العذاب بعد الموت، وسبحان الله عندما تأمَّلت هذه الآية وجدت فيها دليل قاطع على وجود عذاب بعد الموت.
وإلى لقاءٍ قريب، والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
بقلم عبد الدائم الكحيل
يمكنكم مشاهدة هذه الحلقة