هذا العالَم ينبغي على كلّ واحد منَّا أن يتعرَّف على المصير الذي ينتظره.. قُبَل الموت وما بعد الموت.. وبعد البعث.. إلى أن يدخل الجنَّة إن شاء الله…….
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.. السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
نتابع معكم في هذه السِّلسة المباركة في الجزء الرَّابع من “سلسلة عالَم الغيب”، هذا العالَم ينبغي على كلّ واحد منَّا أن يتعرَّف على المصير الذي ينتظره.. قُبَل الموت وما بعد الموت.. وبعد البعث.. إلى أن يدخل الجنَّة إن شاء الله.
في الموضوع السَّابق قلنا إنَّ البعض استدلَّ بآيةٍ في سورة يس، قال تبارك وتعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ)[يس:51]، (الْأَجْدَاثِ) يعني القبور.. مكان رقود ما تبقى من عظام، وما تبقى من أموات، (فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)[يس:51]، ما هو أوَّل شيء يقولونه؟
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)[يس:52]، الحقيقة لنتأمَّل حياة هذا الإنسان فيما لو كان راقداً.. لو كان راقداً في سبات، في غيبوبة، لا يوجد عذاب، لا يوجد ذلّ، وبالمقابل لا يوجد نعيم.. لماذا الكافر وهو يظنّ أنَّه لو كان هناك يوم قيامة.. سوف يكون له مكانة كبيرة عند الله، هكذا يظنّ.. الظَّالم، والكافر، والملحد، أوَّلاً يعتقد أنَّه لا يوجد حساب وبعث.. ولكنَّه يظنّ أنَّه إذا كان موجود الحساب سيكون من الفائزين.
لذلك الله تبارك وتعالى قال: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[فاطر:8]، هذا الموقف إذا كان الإنسان لم يتعرَّض لأيّ نوع من أنواع العذاب، أو الذلّ، أو الهوان.. طبعاً نتحدَّث عن الكافر في القبر، أو أنا أفضِّل أن أسميها حياة ما وراء البرزخ، أو ما بعد الموت.. إذا كان في حالة سُبات، أو غيبوبة، أو رقود لا يشعر بشيء.. لماذا يقول: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)[يس:52]، لماذا؟
لأنَّه تعرَّض إلى أنواع شديدة من العذاب كلّ يوم يُعرَض هو على جهنَّم، (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:46]، كلّ يوم هناك عذاب نفسيّ، وعذاب ماديّ ومعنويّ، وهناك إذلال، وهناك توَّعد، وتهديد.. هذا هو مصيرك أيُّها الكافر، كلّ يوم يُذكِّرونهم بمصيرهم.. الملائكة تُذكِّرهم كلّ يوم.. ملائكة العذاب.. تذكِّر هؤلاء الكفَّار بمصيرهم في جهنَّم.
ولكن لا يعلمون متى ستقوم السَّاعة، فإذا ما قامت السَّاعة أوَّل كلمة ينطق بها هذا الكافر: (يَا وَيْلَنَا)[الصَّافَّات]، في آية: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ)[الصَّافَّات:20]، وفي الآية الثانيَّة في سورة يس: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)[يس:51]، أوَّل شيء ما الذي يقولونه؟
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)[يس:52]، و “المَرقد” هنا لا يعني أنَّنا كنَّا راقدين.. هو مكان الرُّقود.. مكان تستقرّ فيه بقايا الميِّت.
قد يموت إنسان في البحر.. ويبقى منه جزء صغير، ولو بمقدار شريط “DNA” صغير لا يُرى إلَّا بالمجهر الإلكتروني، قد يبقى منه هذا الشَّيء الصَّغير ويُدفن في أعماق البحر.. مكان دفن هذا الشَّريط الصَّغير الذي تبقَّى من هذا الإنسان هي الأجداث.
إذاً القرآن لم يستخدم كلمة قبور.. استخدمها في أماكن أُخرى.. ولكن هنا استخدم “الأجداث” لأنَّها أعَمّ.. الجَدَث هو المكان الذي تستقرّ فيه، وحتَّى الذي يموت على سطح القمر.. هناك قبره على سطح القمر، الذي يموت في أعماق المحيط.. قبره في أعماق المحيط، الذي يموت في أيّ مكان يمكن أن تتصوَّره.. فإنَّ المكان الذي تستقرّ فيه بقايا هذا الميَّت..هذه هي الأجداث.
(فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)[يس:51-52]، لأنَّهم كانوا يَرَون العذاب ولا يُعَذَّبون به كجسد.. كانت النَّفس تُعَذَّب.. ولكن يوم القيامة سيكون العذاب للجسد والنَّفس معاً، سوف تتعذَّب النَّفس ويتعذَّب هذا الجسد.
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء:56]، إذاً هذه الآية هي أقوى دليل على أنَّ الكافر كان يمرّ في مرحلةٍ ما من العذاب أثناء الموت، حتَّى إنَّه عندما صُدِمَ بيوم القيامة؟
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)[يس:52]، مكان رقودنا يعني، وليس مرقدنا أنَّنا كنَّا راقدين مطمئنين.. غير منطقيّ أنَّ المؤمن يقول الله تبارك وتعالى في حقِّه: (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[آل عمران:169]، (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمرا:169]، هناك رزق حقيقيّ يعيشه هذا الإنسان المؤمن الذي مات في سبيل الله.
بالمقابل الكافر يجب أن يكون له نوع من العذاب.. يعني من غير المعقول أنَّ الكافر يموت مطمئناً.
والمؤمن يخاف لحظة الموت حتَّى تتنزَّل عليهم الملائكة، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت:30]، إذاً هل المؤمن من المعقول أنَّه يخاف؟
(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ)[فصلت:30]، ملائكة الرَّحمة لتهدِّئهم وتبشِّرهم بالجنَّة وتقول لهم: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)[فصلت:30]، لا تخافوا مما سيأتي، ولا تحزنوا على ما مضى.. يعني يضمنون لهم الماضي والمستقبل، لا خوف ولا حزن.. ويبشِّرونَهم بالجنَّة.. سبحان الله هذا في حقِّ المؤمن.
الكافر ماذا عنه؟ يجب أن يكون بالمقابل هناك عذاب، كما أنبئ القرآن.. (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ)[الأنعام:93]، يوم الموت، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأنعام93]، عذاب ذلّ، لأنَّهم يُعرَضُون كلّ يوم على النَّار ولا يدخلونها، غدوَّاً وعشيَّاً، يؤخَذون.. يُقادون إلى النَّار.
طبعاً هنا الحديث عن النَّفس، وليس عن الجسد.. لأنَّ الجسد يبقى في الحياة الدنيا، الذي يغادر هو النَّفس.. تغادر منطقة الحياة الدنيا إلى منطقة ما بعد الموت، أو ما وراء البرزخ.. بعد عبور هذا البرزخ تصبح في منطقة.. عالم آخر له قوانين خاصَّة به، له زمن خاص به، له بيئة خاصَّة به، لا يمكن أن نُدركها.. هي غائبة عنَّا.
لذلك الله تعالى خاطب النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وخاطبنا طبعاً.. (وَلَوْ تَرَى)[الأنعام:93]، يعني لو كان لديك القدرة على رؤية ما يحدث للميِّت لرأيت هذا المشهد.
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ)[الأنعام:93]، غياهب الموت، (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام:93]، إنَّ منطقة البرزخ هي فاصل يتعلَّق بالزَّمن وليس بالمكان.. يعني هذه النَّفس لا تذهب من مكان لآخر.. بل تنتقل من زمن لآخر، من حياة لأُخرى، هنا في الحياة الدنيا لدينا قوانين فيزيائيَّة، قوانين كونيَّة، لدينا زمن يسير بانتظام محدَّد.. اليوم 24 ساعة.. والسَّنة 365 يوم.. إلى آخره.
هذا النِّظام موجود في الدنيا، مجرَّد أنَّ نفس الإنسان خرجت منه.. وأُدخلت عِبر البرزخ.. إلى ما وراء البرزخ كما قال تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون:100]، يعني البرزخ سيصبح وراءك بعد الموت، أمَّا الآن في الدنيا هو أمامك.. وبانتظارك.. وستأتي اللحظة التي تعبُر من هذا البرزخ إلى حياة ما بعد الموت.. فإمَّا أن تكون حياة سعيدة، آمنة، مستقرَّة، فيها رزق، فيها لذَّة، فيها متعة، يعني جنَّة بكلّ معنى الكلمة.. وإمَّا أن تكون كما قال الله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأنعام:93]، يعني عذاب وذلّ..عذاب وذلّ، هكذا تستمرّ حتَّى تقوم السَّاعة.
لذلك قال في حقّ قوم فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)[غافر:46]، هذا كلُّه فترة الموت، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر:46].
قد يقول قائل كيف تُعذَّب النَّفس من دون الجسد؟ الإنسان الناَّئم ما الذي يحدث له؟
أريد أن أعطيكم تشبيهاً بسيطاً.. لنتخيَّل أنَّ لدينا إنسان ويحيط به مجال كهرطيسيّ.. يعني مغناطيسيّ وكهربائيّ.. يُسمَّى مجال كهرطيسيّ، هذا المجال هو الذي يتحكَّم بأعضاء الجسد.. هو الذي يسيُّرك أو يعطي القرارات.. تستطيع أن تفعل الخير، وتستطيع أن تفعل الشَّرّ.. هذه النَّفس هي التي تأمُرك بالسّوء، هي التي تقودك للكفر، أثناء النَّوم تذهب هذه النَّفس وتبتعد عن الجسد ولكن تبقى قريبة منه.. ويحدث هذا خلال أجزاء لا يمكن عدُّها من الثَّانية.. أجزاء قليلة جداً من الثَّانية.
الله سبحانه و تعالى عندما يتوفَّى هذه الأنفس.. داخل النَّوم.. عندما ينام الإنسان.. فإنَّ هذه النَّفس تتعرَّض لحلم، أو لمنام، أو لرؤية، وترى صاحبها وأنَّه يُضرب أو يُعذَّب أحياناً، يعني كلّ إنسان لا بد أنَّه رأى كابوس.. أحد يضربه، أحد يخنقه.. إلى آخره، يغرق، يحترق، يهوي، إلى آخره..
يشعر ويتأكَّد مئة بالمئة، أنَّ هذا العذاب عذاب حقيقيّ.. مع أنَّ النَّائم بجوارك لا تشعر به و هو يُعَذَّب في المنام، المنام هذا قد تظنّ أنَّه يستغرق سنوات، أو أشهر.. يعني أحياناً الإنسان يرى منام.. طول هذا المنام مثلاً عشر ساعات.. ولكن حقيقةً عندما رصد العلماء هذه الأحلام.. وجدوا أنَّها عبارة عن ومضة فقط، يعني هو جزء من ثانية يستغرق بالنِّسبة لزمننا نحن.
ولكن بالنِّسبة للنَّفس.. النَّفس لا تخضع لقوانين الفيزياء، وقوانين الزَّمن التي نعرفها، وبالتَّالي هذه النَّفس يمكن أن تخضع لهذا الحلم الذي يستمرّ بالنِّسبة لها ساعات، وربَّما أيَّام، وإنسان يُعَذَّب مثلاً داخل هذا الحلم، أو يرى كوابيس.. وكأنَّه مرَّ عليه سنة كاملة من الكوابيس والعذاب.
والأجهزة تقيس هذه على شكل ومضة.. بسيط جداً يعني أو زمن بسيط جداً، لماذا؟
هذا يؤكد أنَّ النَّفس لا تتعامل مع قوانين الزَّمان والمكان، لها قوانين أخرى، لذلك العذاب في القبر.. أو لِنَقُل ما بعد الموت.. هذا العذاب له قوانين تختلف عن قوانيننا، لا يُقاس بالزَّمن.
قد إنسان كافر يتعرَّض لعذاب مدَّته مليون سنة.. مدَّة هذا العذاب مليون سنة.. وفي مقياسنا الزَّمنيّ هو ثانية.. أو جزء من ثانية.. لذلك هنا يخطئ البعض عندما يقول ما ذنب من مات مثلاً قبل ألف سنة وهو يُعذَّب.. ومن مات قبل يوم القيامة بيوم مثلاً.. يعني يقيسون عذاب القبر، أو عذاب ما بعد الموت في عالم ما وراء البرزخ.. يقيسونه بزمننا وهذا خطأ.. لأنَّ ما وراء البرزخ له زمن خاص به يختلف تماماً عن زمننا، ولا تقاس الأمور بالزَّمن.. تقاس بكميَّة العذاب، أو كميَّة النَّعيم.
لذلك هذا الموضوع طويل جداً، وإن شاء الله في لقاء قادم سوف نتناول قضيَّة جديدة من قضايا عالَم الغيب.. وتحديداً أسرار الموت، وما بعد الموت.
فإلى لقاء قريب.. والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى و بركاته.
بقلم عبدالدائم الكحيل
يمكنكم مشاهدة هذه الحلقة